”.. كثيرًا ما يختار الإنسان تكريس قسم كبير من حياته من أجلِ قضية قد تبدو ضارة أو عديمة النفع!“. من القصص المُلهِمة والتي تحمل في طيّاتها دروساً عظيمة لا حصرَ لها -وهذا عائد على قدرة تأمل القارئ- قصة الملازم الياباني الأسطورة «هيرو أونودا»، ويا لها من قصةٍ عجيبة! سأنقلها هنا كما رواها الكاتب المُتمرِّد الذكي مارك مانسون -مع تصرُّفٍ يسير- في كِتابه الماتع «فن اللامبالاة». ولكن قبل أن تبدأ -أو بعد أن تبدأ، اختر ما تشاء فأنا لا أُحب التسلُّط والاستبداد :)- أيها القارئ المحترم، أرجو منك قراءة ما كتبه كازوتوشي هاندو في «أطول يوم في تاريخ اليابان»؛ لمعرفةِ ما يُمثِّلهُ الإمبراطور الياباني للشعب، وماذا يعني الاستسلام والهزيمة في الحربِ للفرد الياباني. والآن، هيّا بنا إلى جزيرة لوبانغ في الفيليبين.
في السادسِ والعشرين من كانون الأول سنة ١٩٤٤م، تم إرسال الضابط في الجيش الإمبراطوري هيرو أونودا إلى جزيرة لوبانغ الصغيرة في الفيليبين. كانت الأوامر التي تلقاها تقضي بأنَّ عليهِ إبطاء تقدم قوات الولايات المتحدة الأمريكية إلى أقصى حدٍّ ممكن، والثبات والقتال مهما كانت التكلفة، وعدم الاستسلام على الإطلاق! كان ذلك الملازم وقائده مدركان تمامًا أنها في حقيقة الأمر مهمة انتحارية.
وفي شهر شباط ١٩٤٥م، وصلت القوات الأمريكية إلى جزيرةِ لوبانغ واستولت عليها بقوةٍ كاسحة. وخلال أيام قُتل أو استسلم معظم الجنود اليابانيين. لكن أونودا وثلاثة من رجاله نجحوا في الاختفاء في الأدغال. ومن هناك راحوا يشنون حرب عصابات ضد القوات الأمريكية، فيهاجمون خطوط الإمداد ويُطلقون النار على جنود فُرادى، ويواصلون القتالِ بأيةِ طريقةٍ يستطيعونها.
وبعد ستة أشهر، في آب من ذلك العام، ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي. فكان استسلام اليابان بعد أشدِّ الحروب هولاً في تاريخ البشر.
إلا أن الجنود اليابانيين ظلّوا مبعثرين في جزرٍ كثيرة في المحيط الهادي. وكان أكثرهم مختبئاً في الأدغال، وأبرز هؤلاء كان العنيد الملازم أونودا. لم يعرف أونودا ومن معه بأنَّ الحرب قد انتهت، لقد واصلوا القتال كما كانوا يفعلون من قبل. كانت هذه مشكلة حقيقية في وجه إعادة بناء شرق آسيا بعد الحرب، فاتفقت الحكومات على ضرورة فعل شيء ما.
ألقت قوات الولايات المتحدة بالتعاون مع حكومة اليابان، آلاف المناشير في منطقةِ المحيط الهادي كلّها، معلنةً فيها أن الحرب قد انتهت وأن الوقت قد حان لكي يعود كل جندي إلى بيته. ومثلما حدث مع كثيرين غيرهم، عثر أونودا ورجاله على بعضِ تلك المناشير، إلا أنه قرّر -على عكس الآخرين- أنها كاذبة، وأن هذا فخٌّ تنصبه القوات الأمريكية لمقاتلي الأدغال حتى يُظهروا أنفسهم. أحرق هيرو أونودا تلك المناشير وظلَّ مختبئاً مع رجاله، وتابعوا القتال.
مرَّت خمس سنوات؛ وتوقف إسقاط المناشير، وعاد القسم الأكبر من القوات الأمريكية إلى وطنهم. حاول سكّان جزيرة لوبانغ العودة إلى حياتهم الطبيعية، حياة الزراعة وصيد الأسماك. لكن! هيرو أونودا ورجاله واصلوا إطلاق النار عليهم وحرق محاصيلهم وسلب ماشيتهم وقتل من يُغامر منهم بالتوغل بعيدًا في الأدغال. وعند ذلك، قرَّرت حكومة الفيليبين طباعة مناشير جديدة وتوزيعها في الغابات. كانت تلك المناشير تقول: ”اخرجوا! لقد انتهت الحرب. لقد خسرتم الحرب“. لكن أونودا تجاهل هذه المناشير أيضًا.
وفي سنة ١٩٥٢م -أي بعد ٨ سنوات من إرسال هيرو أونودا ورجاله- قامت الحكومة اليابانية بمسعى أخير لسحب آخر الجنود الباقين من أماكنِ اختبائهم في جُزر المحيط الهادي. وفي هذه المرة، جرى إسقاط صور ورسائل من أهالي هؤلاء الجنود عن طريقِ الطائرات، إضافة إلى رِسالة شخصية من إمبراطور اليابان نفسه. ومن جديد، رفض أونودا التصديق بهذه الأخبار، وأصرَّ على اعتبار هذه الصور والرسائل ما هي إلا خدعة من جانبِ الجيش الأمريكي. وعاد هو ومن معه إلى مواصلة القتال.
وبعد مرور بضع سنوات أخرى؛ سئم سكان تلك المنطقة في الفيليبين خوفهم المستمر من هذا الوضع وراحوا يقاتلون أولئك الجنود. وفي سنة ١٩٥٩م استسلم واحد من رفاق أونودا، ولم يلبث أن قُتل الآخر. وبعد عشر سنين قُتل ثالث رفاق أونودا واسمه «كوزوكا» في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة بينما كان يحرق حقول الأرز.. كان لا يزال يحارب السكان المحليين بعد ربع قرن من نهاية الحرب العالمية الثانية!!
أما أونودا الذي أمضى أكثر من نصف حياته في أدغال جزيرة لوبانغ فقد صار وحيدًا.
وفي سنة ١٩٧٢م، بلغ اليابان نبأ قتل كوزوكا فسبّب هذا الخبر ضجّة هناك. كان الشعب الياباني يظن أن آخر جنود فترة الحرب قد عاد إلى البلاد منذ سنوات. راحت وسائل الإعلام اليابانية تطرح السؤال التالي: إذا كان كوزوكا قد ظلَّ في جزيرة لوبانغ حتى سنة ١٩٧٢م، فمن الممكن أن يكون أونودا نفسه، أي آخر جندي ياباني من الحربِ العالمية الثانية، لا يزال حيّا أيضًا! وفي تلك السنة أرسلت حكومتا اليابان والفيليبين فِرقاً للبحث عن ذلك الملازم اللغز الذي صارَ بطلاً وشبحاً أيضاً. لكنهم لم يجدوا أحدًا !
وبعد مرّ الشهور، تحوَّل الملازم هيرو أونودا إلى شيء يشبه الأسطورة في اليابان: بطل الحرب الذي يبدو مجنوناً إلى حدٍّ يجعل من الصعب تصديق أنه موجود حقّا. انتقده البعض، وحوّله البعض الآخر إلى صورة رومانسية، في حين رأى آخرون أنه جزء من قصة خيالية اخترعها أولئك الذين لا يزالون متمسكين بالرغبة في الإيمان باليابان القديمة التي لم تعد موجودة منذ زمن بعيد.
وفي ذلك الوقت تقريباً، سمع شاب اسمه نوريو سوزوكي اسم أونودا للمرة الأولى. كان سوزوكي الشاب مستكشفاً يُحب المغامرة، ولد بعد نهاية الحرب ثم ترك المدرسة وأمضى أربع سنوات متجولاً في أنحاءِ آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، حيث كان ينام على مقاعد الحدائق وفي سيارات الغرباء وفي زنزانات السجون! كان يعمل في المزارع مقابل طعامه، ويتبرع بالدم حتى يتمكن من دفع المال لبعض الأماكن التي كان يبيت فيها. كان صاحب روح حرّة، ولعلّه كان مجنوناً بعض الشيء!
في سنة ١٩٧٢م وجد سوزوكي نفسه بحاجة إلى مغامرةٍ جديدة. جاءت أسطورة الملازم هيرو أونودا إجابة لكل مشكلاته. نعم؛ هذه مغامرة جديدة تستحق الاندفاع فيها! آمن سوزوكي بأنه الشخص الذي سيعثر على أونودا. صحيح أن فرق البحث التي أرسلتها حكومات اليابان والفيليبين والولايات المتحدة الأمريكية عجزت عن العثور على الملازم الأسطورة؛ كما لم يحالف الحظ قوات الشرطة التي ظلّت تمشط الأدغال قرابة ثلاثين عاما. ولم تظهر أية استجابة لآلاف المنشورات التي أُلقيت هناك. لكن، كل هذا لا يهم، هذا الفاشل الذي ترك المدرسة ولم يستطع الاستقرار أو الثبات في وظيفةٍ من الوظائف مؤمن إيماناً لا يشوبه شك أنه سوف يعثر عليه!
وفعلاً، سافر سوزوكي الأعزل من السِّلاح، والذي لم يتلقَ أي نوع من التدريب على أعمالِ الاستطلاع والتكتيكات القتالية، إلى جزيرة لوبانغ وبدأ التجول في الأدغال وحيدًا. كانت خطته بسيطة ومتواءمة تمامًا مع إمكاناته: يصرخ باسمِ أونودا بصوتٍ مرتفع ويقول له: إن إمبراطور اليابان قلق عليه!
والعجيب أنه عثر عليه بعد أربعة أيام فقط!
ظل سوزوكي بعض الوقت في الغاباتِ مع أونودا. وكان في ذلك الوقت قد مرَّت سنة تقريباً على بقاء الملازم أونودا وحيدًا هناك. وما إن صادف سوزوكي حتى رحَّب بصحبته وأظهر توقاً شديدًا إلى معرفةِ أخبار ما يحدث في العالم من مصدرٍ يابانيٍّ يستطيع أن يثق به. صارَ الرجلان صديقين على نحوٍ ما.
وبعد المعرفة والصحبة سأل سوزوكي الملازم أونودا عن السبب الذي جعله يظل هناك ويواصل القتال. كانت إجابة أونودا بسيطة جدًا: لقد تلقى أوامر «بعدمِ الاستسلام أبدًا». ولهذا السبب بقي هناك مواصلاً للقتال. لقد ظل قرابة ثلاثين عاماً ملتزماً بتلك الأوامر! ثم سأل أونودا سوزوكي عن السببِ الذي دفع شاباً مثله يأتي باحثاً عنه. وإجابة سوزوكي كانت: أنه ترك اليابان بحثاً عن ثلاثةِ أشياء: «الملازم أونودا، ودب الباندا، ورجل الثلج المخيف!». هكذا كان تسلسل الأهداف الثلاثة.
التقى هذان الرجلان في ظلِّ أكثر الظروف غرابة: مغامران عقدا العزم على ملاحقةِ صورة زائفة للمجد، كأنهما نسخة يابانية حقيقية من دون كيشوت وسانشو بانزا؛ رجلان عالقان معاً في وسطِ أدغال الفيليبين النائية الرطبة يتخيلان نفسيهما بطلين رغم كونهما وحيدين معدمين تمامًا، ورغم كونهما لا يفعلان شيئاً هنا! كان أونودا قد كرَّس القسم الأكبر من حياته حتى ذلك الوقت من أجل حربٍ غير موجودة.
وكان سوزوكي مستعدًا لتقديم حياته أيضًا. فبعد أن عثر على الملازم هيرو أونودا وعلى دب الباندا، صار مستعداً لأن يموت في جبال الهيمالايا بعد عدة سنوات من ذلك وهو يبحث عن رجل الثلج المخيف!
”كثيرًا ما يختار الإنسان تكريس قسم كبير من حياته من أجل قضية قد تبدو ضارّة أو عديمة النفع“. لا معنى لتلك القضية من حيث الظاهر! إنه من الصعب تخيّل كيف كان ممكناً للملازم أونودا أن يكون سعيدًا في تلك الجزيرة طيلة ثلاثين عاما وهو يعيش على القوارض والحشرات وينام على الأرض الترابية ويقتل أشخاصًا مدنيين سنة بعد سنة. أو ما جعل سوزوكي يسير إلى حتفهِ من غير نقود ولا رفيق ولا غاية غير ملاحقة رجل الثلج الخيالي!
لكن أونودا في وقتٍ لاحق من حياته قال إنه ليس نادماً على أي شيء، وأنه فخور حقّاً بخياراته وبالزمن الذي أمضاه في جزيرة لوبانغ. وقال إنه مما يشرّفه أنه كرَّس جزءًا كبيرًا من حياته لخدمة إمبراطور لم يعد موجودًا. ومن المرجح أن سوزوكي كان سيقول شيئاً مماثلاً لو أنه بقي حيّاً.
(حاشية: لن تستغرب هذا إذا فهمت أنَّ علاقة الشعب الياباني بالإمبراطور علاقة فريدة تختلف عن بقية شعوب العالم. الإمبراطور الياباني في نظرِ الشعب هو سليل عرش أماتيراسو إله الشمس، ويُجسِّد في قدسيته هذا الوجود العظيم الذي يُدعى اليابان. بدونه، أو بدون ورثته، لا يوجد أي يابان).
نعود..
لقد اختارَ كلّ من هذين الرجلين المعاناة التي أرادها. اختار الملازم هيرو أونودا المعاناة وفاءً لإمبراطور ميّت، واختار سوزوكي المعاناة من أجلِ المغامرة بصرفِ النظر عن جنونِ مغامراته. وبالنسبة لكل واحدٍ منهما؛ كان لتلك المعاناة معنى حقيقي لأنها قُدِّمت في سبيل خدمة «قضية كُبرى». ولأنها كانت تعني شيئاً، فقد كانا قادرين على احتمالها، بل لعلّهما كانا مستمْتعين بها أيضاً.
”إذا كانت المعاناة أمرًا لا مهرب منه، وإذا كانت مشكلاتك في الحياة أمرًا لا يمكن تفاديه، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس «كيف أوقف المعاناة؟» بل «لماذا أعاني، ولأيِّ غاية؟» وعلى هذا الجواب تتوقف قدرتك على تقبّل ما تعانيه، أو إيجاد الحل الذي يريحك“.
عاد هيرو أونودا إلى اليابان سنة ١٩٧٤م، وصارَ له شيء من الشهرة في بلاده. بدأ يتنقل بين البرامج التلفزيونية والمحطات الإذاعية، وكان السياسيون حريصين على مصافحته، بل إن الحكومة أيضًا قدَّمت له مبلغاً كبيرًا من المال، ثم نشر كتاباً عن حياته.
إلا أنَّ ما وجده عندما عاد إلى اليابان أصابه بالذعر؛ ثقافة استهلاكية رأسمالية سطحية ضيّعت تقاليد الشرف والتضحية التي نشأ عليها جيله كلّه.
حاول أونودا استخدام شهرته المفاجئة من أجل تعزيز قيَم اليابان القديمة، لكن مجتمعه الجديد أعاره أُذناً صمَّاء. كان الناس يعتبرونه «شيئاً للفرجة»، وليس شخصاً جدّياً صاحب فكر؛ رجلٌ ياباني خرج فجأةً من آلة الزمن لنتفرج عليه كأنه عجيبة من العجائب أو كأنه أثر قديم في متحفٍ ما.
ولعلَّ المفارقة الكُبرى أن الملازم أونودا صار أكثر اكتئاباً مما كان عليه في الأدغال طيلة ثلاثين عامًا، لأن حياته هناك كانت من أجل شيء ما، على الأقل؛ كان لها معنى! وهذا المعنى هو ما جعل معاناته شيئاً يمكن احتماله، بل جعلها شيئاً مرغوباً فيه أيضًا.
أما بعد عودته إلى اليابان التي صار يعتبرها أمة من الأشخاص الفارغين والنساء المتهتكات بملابسهن الغربية، فقد واجهته الحقيقة التي لا مهرب منها: ”لم يكن لقتاله أي معنى!“. إن اليابان التي عاش وقاتل من أجلها لم تعد موجودة. لقد مزّقه إدراك هذه الحقيقة أكثر مما فعل به الرصاص طيلة حياته. بما أنَّ معاناته كلها كانت من غير معنى، فقد أدرك الحقيقة المخيفة على نحوٍ مفاجئ… ثلاثون سنة من عمره ضاعت هباءً!
والآن؛ ما هو المعنى الذي تطلبه؟ وهل يستحق منك التضحية في سبيله؟ سؤالٌ لابد من تَكراره على نفسِك حتى تجد نفسك!
المصدر: ifahad.art.blog