من أجل هزم الشعبويين المتشددين، ينبغي عدم محاولة تقليدهم

من أجل هزم الشعبويين المتشددين، ينبغي عدم محاولة تقليدهم

كل اصدارات هذا المقال: [عربي] [English]

لندن ـ ترى صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن حكومة المحافظين التي ترأسها رئيسة الوزراء تيريزا ماي في بريطانيا في حالة اضطراب. لكن الاستقالات التي عصفت بها في الأيام الأخيرة - حتى استقالة بوريس جونسون، الذي كان حتى وقت قريب وزير خارجيتها الطموح – قد تصرفنا عن حقيقة بسيطة: إن السبب الرئيسي وراء وجود حزب السيدة ماي في الكثير من المتاعب بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هو أنها تسعى بكل جهد لإنهاء "حرية حركة الناس وتنقلهم" ، وهو أمر ضروري حتى بالنسبة للبلدان الأوروبية التي هي خارج الاتحاد الأوروبي ، أي أنه شرط للانتماء إلى السوق المشتركة للاتحاد.
وتتساءل الصحيفة: لماذا يبدو المحافظون في بريطانيا مصرين على هذا المسار ، على الرغم من حقيقة أن الوصول إلى هذا السوق أمر حيوي لازدهار البلاد التي يحكمونها؟ لأن الوعد بـ "استعادة السيطرة" على حدود بلادهم أصبح تدريجياً رد فعل جاهزا على التحدي الذي تحاول العديد من أحزاب يمين الوسط في أوروبا التعامل معه لمدة عقد أو أكثر.
إن صعود الحركات القومية الشعبوية المناهضة للهجرة التي تدعي أنها تمثل "الشعب" ضد ما تراه مؤسسة سياسية فاسدة وغير مهتمة، له جذور اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية عميقة. ومع أن رد فعل الأحزاب الديمقراطية المحافظة والليبرالية والمسيحية الديمقراطية، التقليدية، في القارة يمكن اختصاره إلى أربعة مناهج ضحلة وغير فعالة إلى حد كبير. وتؤكد أنه فقط في حال واجه تيار يمين الوسط بشكل كامل حقيقة أنه أمام طرق كلها مسدودة، حينذاك وحينذاك فقط يكون بإمكانه البدء في التوصل إلى طرق أفضل وأكثر إبداعًا وربما أكثر تصميما للتعامل مع التحدي الذي يواجهه.

النهج الأول هو محاولة تجاهل اليمين الراديكالي الشعبوي - حتى إلى درجة التعامل معه كمنبوذ. وتقول الصحيفة إن هذا هو المسار والنهج الذي سار عليه منذ سنوات عديدة الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا وحزب الليبراليين المعتدلين في السويد Moderaterna. لكنها تخلص إلى أنه، في النهاية، لم ينجح.

وكنتيجة لهذا النهج المتجاهل، حصل حزب البديل اليميني المتشدد المعادي للهجرة على 13٪ من الأصوات في الانتخابات الفيدرالية في العام الماضي. لقد أدت شعبية الحزب المتزايدة إلى إفساد الشريك الأصغر للمستشارة أنجيلا ميركل، الاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا ، إلى درجة أن زعيمه ، هورست سيهوفر ، وهو وزير الداخلية في حكومة ميركل، قد شارف مؤخراً على الاستقالة على نحو خطير ، احتجاجاً على فشلها المفترض في التصرف في التعامل مع ملف الهجرة - وهي استقالة لو دخلت حيز التنفيذ لكانت أسقطت حكومتها بسهولة.
وفي الوقت نفسه، فإن الحقيقة المتمثلة في أن حزب ديمقراطيي السويد Sverigedemokraterna قد نشأ في القبو المتخفي البعيد عن الأعين ضمن التيار العنصري الأبيض في ذلك البلد، هذه الحقيقة لم تمنعه من الحصول على 13٪ في الانتخابات العامة لعام 2014. ويتوقع الكثيرون أن يحققوا نتائج أفضل هذا العام في الانتخابات التي ستعقد في سبتمبر القادم، حتى في أعقاب محاولات الحكومة السويدية لتعزيز وتشديد مراقبة الحدود.

النهج الثاني الذي اتخذه يمين الوسط هو تشديد موقفه من الهجرة والتعددية الثقافية، قاطعا وعدا بجعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في المجيء إلى البلاد كما بالنسبة لأولئك الذين قد قدموا بالفعل. البلدان التي قام يمين الوسط بانتهاج هذا السبيل تشمل فرنسا وهولندا والدنمارك وبريطانيا.
مرة أخرى، ورغم كل ذلك، لم تكن النتائج مثيرة للإعجاب ولا مشجعة: فقد نجحت الجبهة الوطنية اليمينية المتشددة في الوصول إلى جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017. كما أن الحزب الهولندي المتشدد (الحزب من أجل الحرية) لم يذهب بعيدا أو يختفي.
كما أصبح حزب الشعب الدنماركي ثاني أكبر الأحزاب في الدنمارك عندما استحوذ على 21 في المائة من الأصوات في الانتخابات العامة لعام 2015 - ليستأنف حينها الدور الذي لعبه بالفعل بين 2001 و 2011، وهو ضمان بقاء حكومة أقلية بقيادة يمين الوسط، على رأس السلطة.

في بريطانيا، قرار حزب المحافظين بمحاولة الالتفاف بعيدا عن حزب الاستقلال في المملكة المتحدة، الحزب اليميني المتشدد والشعبوي ، الذي مهد تحت قيادة زعيمه نايجل فاراج (وهو من أشد المعجبين بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب) لتحقيق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، فإن ذلك لم يحقق سوى انتصار باهظ الثمن. صحيح أن حصة حزب الاستقلال في المملكة المتحدة انخفضت إلى 2٪ فقط في عام 2017 من النسبة السابقة وهي 13٪ في عام 2015. لكن باستعداء شرائح الناخبين الأكثر تعليماً والأكثر ليبرالية، انتهت السيدة ماي بخسارة أغلبيتها البرلمانية. ومنذ ذلك الحين، اضطرت إلى الاعتماد على دعم الإنجيليين في إيرلندا الشمالية للبقاء في السلطة - والآن، ونظراً للاختلافات داخل حزبها ، فإن ذلك الدعم قد لا يكون كافياً لبقائها في سدة الحكم.

النهج الثالث يأخذ هذا النوع من ترتيبات الدعم إلى المستوى التالي. منذ بداية القرن، نأت أحزاب يمين الوسط في إيطاليا والنمسا بشكل دوري عن الأحزاب اليمينية المتشددة الشعوبية ، على الأقل جزئياً على أمل أن يؤدي ذلك إلى إظهار هذه الأخيرة غير قادرة على تحقيق خطابها التصعيدي الدوغمائي. وماذا كانت النتائج في النهاية؟ لقد ازدادت سياسات الهجرة والتعددية الثقافية تشددا أكثر فأكثر دون أن تفعل الكثير - على الأقل على المدى الطويل - لتقويض مكانة الأحزاب الشعبوية.
وقد شهد العام الماضي، الحزب الشعبي النمساوي، وهو بمسماه : الحزب الديمقراطي المسيحي ، مجبراً على دعوة منافسيه الراديكاليين ، حزب الحرية ، إلى الحكومة للمرة الثانية. وقد أصبحت عواقب هذه السياسة واضحة الآن: فقد تم تمكين الدولة من الاستيلاء على الأموال النقدية والهواتف الجوالة من طالبي اللجوء وهي تخطط للحد من مخصصات الرعاية الاجتماعية للمهاجرين الذين لا يجتازون اختبارات اللغة، ولحظر الفتيات دون سن العاشرة من ارتداء الحجاب.
وفي إيطاليا، أنهى حزب سيلفيو بيرلوسكوني Forza Italia الانتخابات العامة هذا العام خلف حزب La Liga ، الذي أصبح زعيمه ، Matteo Salini ، الآن وزير الداخلية للبلاد وبالتالي الرجل المسؤول عن رفض إيطاليا مؤخرا السماح للقوارب التي تحمل طالبي اللجوء اليائسين بالرسو في موانئها.

النهج الرابع والأخير هو الأكثر راديكالية من بين جميع ما ذكرناه. فبدلاً من محاولة عزل تيار شعبوي راديكالي يميني، أو الاقتباس منه، أو مشاطرته الحكم، يتحول حزب من تيار يمين الوسط إلى حزب شعبوي راديكالي يميني. وهذا ما حدث بالفعل في المجر، حيث تحول حزب Fidesz بزعامة فيكتور أوربان على مدار العقد الماضي من حزب ينتمي إلى التيار العام الداعم لاقتصاد السوق على ما يبدو إلى بطل متشدد جدا في مجال الحدود المغلقة و "الديمقراطية غير الليبرالية".

هل نجح الأمر؟ حسنا، فقط إلى حد ما. ففي المجر، وعلى الرغم من جهود السيد أوربان (أو من يدري، جزئيا لأنه أدى إلى تغيير مركز الجاذبية في النظام إلى اليمين أكثر)، اقتنص حزب جوبيك، الذي لا يزال يعتبر إلى حد بعيد حزبا يمينيا متشددا على الرغم من المحاولات الأخيرة لجعل نفسه أكثر اعتدالا، 19 في المائة من الأصوات في عام 2018 - أي أنه فقد فقط نسبة 1 في المائة فقط من أفضل ما حققه قبل أربع سنوات. وكانت هذه النتيجة مقابل ثمن باهظ جدًا.

وعليه، كما ترى الصحيفة، فإن محاولة هزم التيار الشعبي اليميني الراديكالي عبر الانضمام إلى هذا التيار، أو من خلال تبني أجندته أو حتى بدعوته للمشاركة في ائتلاف حكومي - تبين أنها محض خدعة وخطأ. إضافة إلى أن لها أيضا تكلفة ضخمة، أخلاقيا، فضلا عن الاقتصاد. كما ورد في الإنجيل "ما الذي سيستفيده الإنسان، إذا اكتسب العالم كله، وفقد روحه؟" هذا هو السؤال الذي ينبغي للساسة في تيار يمين الوسط في أوروبا (وربما لنظرائهم الجمهوريين في الولايات المتحدة، أيضا) أن يسألوه لأنفسهم على محمل الجد، وبشكل آني ودون تلكؤ.

من أجل هزم الشعبويين المتشددين، ينبغي عدم محاولة تقليدهم السابق

من أجل هزم الشعبويين المتشددين، ينبغي عدم محاولة تقليدهم

صيف ساخن جدا في السويد التالي

صيف ساخن جدا في السويد

شاركنا تعليقك